بلقاسم الجطاري

الجزء الأول

أثرت، في مقالات سابقة عديدة، صعابا وتحديات تنتصب أمام الجامعة المغربية، وعرضت ضمنها تصورا أوليا لمكامن الخلل، وتشخيصا لحالة الارتباك المزمن التي يعرفها القطاع، واقترحت مداخل إجرائية اعتقدت، وما أزال، أن تنزيلها كفيل بتخفيف حدة المشكلات الآنية (التدبيرية) والبنيوية (السياسية). وقد حرصت، رغم ما في الآذان من وَقْرٍ، على مواصلة الكتابة في الموضوع في غير ما مناسبة وسياق؛ لأن تقديري لأثر الحديث يستحضر خصوصية التواصل “النخبوي” بالبلد، وأعني هنا صعوبة قيام حوار وطني عبر منصات الوسائط التفاعلية، حوار سريع الصدى يقوم مقام المناظرة وغيرها من صيغ التجمع الفعلي، ولا بأس أن أقول هنا إن صيغة المناظرة في مثل هذا الموضوع قد أصبحت متجاوزة بفعل ما استجد في عالم التقنية.

وقد كنت ألقى تشجيعا وافرا من قبل أصدقاء وزملاء باحثين، وبخاصة أولئك الذين ورثوا لياقة وطول نفس، واستمروا على نهج الالتزام العلمي والأكاديمي رغم ما يعتمل في الجسد الجامعي من اختلالات تثبط العزائم، وتسد شهية البحث والاجتهاد.

غير أني كنت ألقى، مرارا، وللأمانة أيضا، نقدا صريحا شديد اللهجة، يؤاخذني أصحابه على اقتصاري على ما يعتبرونه توصيفا عاما “ماكرومؤسسيا”، يتناول المؤسسة الجامعية في شموليتها، ويتجنب الاستشهاد بحالات بعينها، ويتغافل عن إعطاء الأمثلة الشاهدة على اختلالات أشير إليها بالأصبع أو الاسم، حتى يتمكن المنشغل بشأن الجامعة من تتبع مصير الاختلال، ومواكبة طرق التفاعل التدبيري معه من قبل الجهات الموكل لها ذلك.

وأنا اليوم سألتفت إلى توجيه الفئتين معا؛ لا لصواب الدعوى التي تنطلقان منها فحسب، ولكن لأني أعاين، راهنا، مجريات قرار تدبيري يتم تصريفه بالمؤسسة التي أنتمي إليها؛ بكلية الآداب بوجدة، يستحثني تسليط الضوء على واحدة من معضلات التسيير التي تنخر جسد الجامعة المغربية، ويدعوني إلى تبيين أثر ذلك على مناخ التحصيل العلمي بهذه المؤسسة.

يتعلق الأمر بقرار تدبيري عجيب السياق حديث الطروء، هو قرار إبعاد ملف “التكليف بمهام التدبير” من دائرة الحكامة (حيث ينبغي أن يكون) ووضعه في صحن الترضية والمحاصصة، وذلك بجعله موضوعا لمقايضة فَجَّة تنال بموجبها جهات معلومة مهام الإشراف على ملفات بعينها جزاء خدمات قدمتها، قبلا، في إطار مسلسل طويل من الإكراميات المتبادلة. ولعمري، فإن الوصول بملف من هذا الحجم إلى هذا الحضيض لمجلبة عار تسيء إلى المؤسسة وتاريخها العريق.

ماذا ستستفيده المؤسسة من إسناد مناصب التسيير والمسؤولية لمن لم يفارقهم الفشل والإخفاق في كل ما أنجزوه من مهام؟ ألا يثير مثل هذا القرار شبهة إذكاء العزم على تمديد عمر المسلسل المذكور؟ بلى، طبعا.

أيصح، والحالة هذه، أن يتساءل المرء عن سبب فشل تدابير الإصلاح؟ أي إمكانية لإنجاح مشاريع التأهيل التي ترفعها المؤسسات الوطنية في ظل الأزمة القيمية التي تعيشها الجامعة؟ وأي حافزية يمكن إيقادها لدى الأساتذة الباحثين الشباب في ظل هذا الانتكاس القيمي الذي مست لوثته الجسد الجامعي خلال السنوات الأخيرة؟

لقد تقرر تقديم “البحث العلمي” بالمؤسسة قربانا لتحقيق مآرب شخصية ومصالح فردية ضيقة أشد ما يكون الضيق، كما تقرر أيضا، والعارفون الصُّموت كثر، وضع هذا القطاع الجامعي الحساس في حضن أجندات خارجية لا صلة لها بالكلية ولا بالجامعة ولا بالوطن على وجه التعميم والإجمال، وتلك قصة أخرى سنعرض تفاصيلها، في ورقة لاحقة، بما يلزم من التدقيق والحجج والاثباتات.

لندع قصة القربان جانبا، على أن نتابع فصولها الدرامية حصريا وقريبا، ولنعد إلى اختلالات البنية ذات الطابع التراكمي (التاريخي)، متأملين، أولا، واقع البحث العلمي بكلية الآداب بوجدة، لتوصيف تَرَدّيه وهُزاله، مع تقديم مقترحات-حلول للخروج منها، في سياق تصور إصلاحي ذي مضمون عملي، ينطلق من “المتاح” و”الممكن”، ولا يسبح في بحر “المزايدات” التي دأبت الكثير من الوثائق والمقررات والأدبيات البيداغوجية على اجترارها دون استحضار واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي، وكثير منها يجري، حاليا، على الألسن المخاتِلَة بالمؤسسة، والتي تراهن على تنميق الخطاب ونحته نحت الخشب (اللاتيني).

نلتفت بعد هذه الإشارة إلى تجليات وضع البحث العلمي المأزوم بالمؤسسة، وهي بالتأكيد تجليات كثيرة لا يسع المجال لحصرها جميعا، لذلك نكتفي بذكر بعض منها على سبيل التمثيل:

طغيان التصور الإداري على بنيات البحث العلمي:

ومن تجلياته تكريس الطابع البيروقراطي في التعامل مع ملفات الاعتماد الخاصة بالدراسات الأساسية والعليا. وهيمنة المعايير الشكلية، وبناء الجدران الصفيقة الفاصلة بين التخصصات المختلفة، بحيث تغدو الشعب والمسالك جزرا منعزلة منكفئة لا رابط يجمعها ولا أهداف مشتركة.

فقر البنيات التحتية:

ونعني هنا افتقار كلية الآداب والعلوم الإنسانية إلى بنيات التكوين الأساسية: المخابر، وسائل البحث الميداني.. وبخاصة في الشعب والتخصصات التي تستدعي ذلك (اللغات، التاريخ، الجغارفيا، علم الاجتماع..). وهو ما يفقد البحث العلمي دعامته التطبيقية، ويبقيه حبيس التلقين النظري.

فتح وحدات تكوين غير ذات أولوية:

ونعني به إصرار طواقم التدبير المسؤولة عن الهندسة البيداغوجية للبحث العلمي على اعتماد وحدات كلاسيكية لم تعد قادرة على مسايرة التحولات السوسيوثقافية والسوسيواقتصادية التي يعرفها المغرب ومحيطه الإقليمي والدولي. ونحن نعني هيمنة التصور التقليداني في هندسة التخصصات والبرامج، وفتح وحدات تكوين وبحث لا تتناسب مع الرهانات التنموية التي ينبغي أن تنخرط فيها المؤسسة الجامعية.

ضعف مردودية المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي:

والقصد هنا أن نثير محدودية الأثر الذي تخلفه هذه الهيئة التقريرية في تنمية البحث العلمي بالمغرب؛ بسبب عدم وضوح الرؤية، وتداخل المهام والاختصاصات، وغياب الإرادة السياسية لدى الفاعلين في القطاع لتمكين هذه الهيئة من الإمكانات المادية واللوجستيكية والقانونية الكفيلة بتجويد الأداء.

ضعف ميزانية البحث العلمي:

ونحن لا نثير قضية الميزانية التي تخصصها الوزارة لقطاع البحث العلمي؛ لأن الرفع منها يستدعي إحداث نهضة اقتصادية كبرى بالبلد. ولكننا نقصد مجال التدبير الذاتي لهذه الميزانية، أي غياب الاعتمادات الإضافية التي يفترض أن يساهم بها شركاء محليون ودوليون يعنيهم البحث في مجالات بعينها. وهو في الحقيقة نتاج عرضي لعامل أخر هو انعدام جسور التواصل بين فئة المنتجين للبحث العلمي وفئة المستفيدين المفترضين منه.

في ظل هذا المناخ المأزوم، تفقد المؤسسة الجامعية فرصتها في خلق التنمية وتحفيز الديناميات الاقتصادية والاجتماعية التي تنخرط فيها الجهة، وتكرس في الأذهان صورة سلبية عن المؤسسة الجامعية. ولذلك يجب العمل على تكثيف الجهود الرامية إلى بلورة استراتيجية بحثية واضحة، وتشجيع مشاريع تطوير كلية الآداب والعلوم الإنسانية، في أفق تجاوز العثرات، وتثبيت أقدام المؤسسة الجامعية في مجال تدبير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للساكنة، ومن المسالك التي نراها لازمة لبلوغ هذا المرمى على الأمد المنظور نذكر أساسا:

  • استشراف الحاجات السوسيواقتصادية للجهة، من خلال إنجاز بحوث ودراسات رصينة، ثم فتح تكوينات جامعية ذات صلة بالمحيط الاقتصادي. وهو ما لن يتأتى إلا بعد تقويض أركان التصور الكلاسيكي الذي لا يرى من صلات ممكنة بين مخرجات كلية الآداب والعلوم الإنسانية واحتياجات سوق الشغل. وهذه غاية تقضي، بالضرورة، استدعاء الشركاء السوسيو-اقتصاديين للمساهمة الفاعلة في التدبير البيداغوجي والمالي للمؤسسات الجامعية، وذلك عن طريق الهيئات الجامعية المختلفة ( مجلس الجامعة، مجلس المؤسسة، الشعب..).
  • تشجيع مجموعات البحث، وإغناء الرصيد المكتباتي للجامعات..، ورقمنة المكتبات الجامعية، وإحداث مستودع رقمي للرسائل الجامعية التي أجازتها الجامعات المغربية، وهو ما سيساهم في توزيع المجهود البحثي على المجالات والمواضيع بشكل متوازن وعادل، ومن ثم الوقوف في وجه التعامل الحدوسي والاجتهادات الفردية في انتقاء مواضيع البحث العلمي.

  • تثمين المنجز من البحوث والدراسات ذات القيمة العلمية الرفيعة، والعمل على نشرها واستغلال خلاصاتها وتوصياتها بهدف تنمية المحيط الاقتصادي والاجتماعي، وذلك من من خلال تولي جهة مختصة تابعة لمجلس الجامعة توكل لها الصلاحيات التامة لتنظيم البحث العلمي وتأطيره وتوجيهه، وكذا عقد الشراكات الوطنية والدولية، وتجميع الوسائل التقنية والموارد المتاحة وفق استراتيجيات متنوعة (قصيرة-متوسطة-بعيدة المدى).

هذا ونثير في ختام هذا المقال المقتضب حاجة الجهة الشرقية إلى مشروع نهضوي كبير يكون قطاع التعليم عماده ومرتكزه، يتم فيه هندسة إجماع حقيقي بين كل الفاعلين والمتدخلين على ضرورة إحداث ثورة تعليمية تقطع مع عثرات الماضي وانتكاساته المتعددة. حتى ولو تطلب الأمر تأجيل النظر في غيره من الأوراش الاجتماعية والاقتصادية؛ لأن التعليم الجيد هو الوحيد القادر على جلب الحلول الناجعة لكل المعضلات الاجتماعية (البطالة، الفقر، الجريمة..)، ونحن لا نرى أفضل، في هذا السياق، من استدعاء قولة “ديريك بوك Derek Curtis Bok” الشهيرة (الرئيس الأسبق لجامعة هارفارد): “إذا كنت تعتقد أن التعليم مكلف، فما عليك إلا أن تجرب الجهل، وإذا كنت تعتقد أن التنظيم يتطلب الكثير من الوقت، فما عليك إلا أن تجرب الفوضى”