عرفته عندما كنت تلميذة بالإعدادي نهاية السبعينيات، جاء لمنزلنا بحي البيتات، كبناء “عطاش”، اتفق معه والدي على بناء طابق آخر لبيتنا الصغير الحجم، والذي لايتجاوز 50 مترا مربعا، وكان الحل الأنسب في نظر والدي، هو التوسع عموديا، حتى يستطيع جميع أطفاله الأربعة آنذاك، الحصول على غرفة منفردة لكل واحد، كان الجيلالي شابا دكاليا، جاء لمدينة الرباط كي يشتغل في ورشات البناء “متعلما” و استطاع أن يصبح بدوره lمعلما”، وكالغالبية من الدكاليين، كان طويل القامة، قوي البنية، أسمرا بعض الشيء، بعينين واسعتين وشعر كثير على موضة الهيبي، كل ما أذكره منه، تلك الابتسامة الدائمة على وجهه، كنت أعتقده أبلها بعض الشيء، لكنني عندما كبرت عرفت أنه كان فقط، طيبا جدا ومسالما ةعاشقا خجلا، وراضيا قانعا بمهنته ومايكسبه منها، حيث كان يساهم بدوره في ميزانية أسرته المتعددة الأفراد،التي كانت تسكن بحي دوار الكرعة.
كانت العادة عند أسرتي كأغلب الأسر المغربية الشعبية حينها، أن تتكفل بإطعام البنائين الذين تعهد لهم ببناء منازلها، فطور في العاشرة صباحا، بالخبز والزبدة وبراريد الشاي الساخن المنعنع، وأحيانا “طرح” من المسمن أو البطبوط المدهون بالزبدة أو الزيت البلدية، وتأتي فترة الغداء، فيوضع للجيلالي ومتعلميه، نصف الحصة من طبيخ ما كنا منتناوله من يدي أمي اللذيذتين، حتى ولو كان طبق عدس أو لوبياء فريد، وفي فترة المساء، فال”الكاسكروط”يكون واجبا إطعاميا أخيرا لاختتام يوم من العمل حيث ينصرف الجيلالي ومعاونوه حوالي السادسة، لو كان الزمن مصيفا، وحوالي الرابعة لو كان شتاء، أما يوم رمي “الضالة” فقصعة الكسكس باللحم الكثير والخضر، تكون واجبا مقدسا على أهل البيت…كنت أكره كل هذه الأمور، لأنها تتعب جسمي الصغير، وخاصة أنني كنت البنت الكبرى التي عليها، المساعدة في جميع أشغال البيت بعد المدرسة، و”السخرة” للحانوت والسوق لو لزم الأمر، شخصيا لم أكن أستلطف هذا الجيلالي، لكن شخصا آخر في الأسرة وقع في حبه، في حب نظراته الشبه بلهاء، وابتسامته البريئة التي تتعارض بفتنة مع عضلاته المفتولة وقامته الفارهة، وهيئته الهيبية بشعره الأشعث وقدمي الشعر النازلين على خديه الملتفحين بشموس الأسطح حيث يقضي أيامه يبني، ويملس، ويضرب “المرطوب” ويصعد الرمل وأكياس الإسمنت الرمادي، وأطنان الحجر “الكياص” ومئات القطع من الطوب الأبيض والآجر البرتقالي وقضبان الحديد السوداء المفتولة و”بارات” الخشب التي يكتريها ليقيم عليها السقف ويتركه كي يجف أسابيع معدودة، وحتى أسطل الصباغة و الجير والزفت الأسود، الذي يستعمله عند نهاية البناء على الجهة الخارجية لجدران سطح المنزل، اتقاء مياه المطر وحتى نظرات الحسد من الجيران…
كانت خالتي، هي من وقعت في حب الجيلالي الدكالي، كانت تسكن معنا لفترات طويلة جدا، عندما تغادر أسرة من الأسر التي تشتغل عندها كخادمة، وكانت تعتبر أمي بمثابة أمهما التي فقدتاها، ولم أر وجهها أبدا، خالتي، كانت جميلة جدا، عيناها سبحان المعبود، سوداوين واسعتين كحلم قديم، وفمها مرسوم كجميلات هند بنجيلاني، بشرتها سمراء خفيفة وصافيه كسماء الأطلس المتوسط في شهر أبريل، الفرق الوحيد بينها وبين معشوقها الجيلالي، هو أنها كانت جد قصيرة، بقدر ماكان هو طويلا جدا، لكن هذا الفارق في الطول، لم يحل دون اختزال المسافة بين قلبيهما، نشأ بينهما حب جارف، وقوي، وصرت ألاحظ يوميا، كيف كانت تعتني بحبيبها، تقدم له الطعام بنفسها في صحن معزول عن معاونيه، تطلب منه ترك ملابسه كي تغسلها، وصار الجيلالي يوما عن يوم، يتقرب من والدي، يتأخر في العمل وحده مؤجلا موعد الإنصراف، وقد يصرف المتعلمين، يتحجج بانتظار قدوم والدي من العمل، يدخن معه سيجارة، ثم يشربان كأس شاي معد بعناية ومفدم من طرف خالتي الجميلة والعاشفة…
لا أذكر كم مر من الوقت على اشتغال الجيلالي عندنا، ولا كم بني من حائط، ولا كم من سلعة البناء نقل، حتى وجدته يحضر والديه وأخواته الكثيرات لخطبة خالتي الجميلة، وبدأت قصة أخرى، تداخل فيها الالتزام بالعمل في بناء المزيد والمزيد من الجدران والغرف، والحب بين الجيلالي وخالتي الصغيرة، حتى جاء اليوم الذي سفط فيه الجيلالي المسكين، من على أعلى الطابق الثالث، وهوي بالكاد يكمل “المرطوب” لواجهة الحائط من الخارج، تكسر من ذراعه، ووضعت بالجبص.
عندما سقط الجيلالي من أعلى حائط السطح، الذي هوى به وهو “يضربه” بالمرطوب متكئا عليه حيث جسمه من الداخل ويده التي تمسك ” الملاسة” للخارج، يا إلهي…لقد سقط بجسمه الطويل العريض من الطابق الثالث للأرض، صرخت أمي وصرخت الجارات، ولقد كنت حينها بالبيت، لم أفهم شيئا حتى رأيت خالتي تصرخ وتبكي، المسكينة كانت كمن رأت عزرائيل يهم بخطف حبيبها منها، أما أمي فقد توقعت كارثة حقيقية، حملت سيارة الإسعاف الجيلالي الجريح نحو المستشفى، لم يمت ولكن تكسرت ذراعه اليمنى، وضعها الطبيب في الجبص، مانحا إياه راحة إجبارية مدتها شهر، وعندما عاد لبيتنا بعد أسبوع، كنت متأكدة أن الأشعاال سوف تستمر، من طرف معاونيه وتحت إشرافه، كم كنت أكره ورشات البناء هذه، تشكل لي عذابا لاينتهي من الأشغال المنزلية الشاقة واللامتناهية، كان الجيلالي يحظى بعناية خاصة وفوق العادة من طرف الخالة الصغيرة العاشقة، وكأنه فرح بما وقع له، “يتدلع” قليلا حتى يذيب قلبها كما يذيب الصباغون الجير في الماء، بعد شهر، قارب البيت على الاكتمال، وقارب قلبا العشيقين على التوحد، وتوحدا فعلا في صيف ذلك العام، اقترنت خالتي بالجيلالي، وهي تنط من الفرح، وكأنها فتاة صغيرة ذاهبة لحفلة رقص مع رفيقتها، لم تكن تعرف، المسكينة، أن الزواج مسؤولية كبيرة، أكبر من قامتها الطفولية، وأكبر من عينيها الضاحكتين للحياة، ولم تعرف أن السكن مع عائلة الزوج وسط الحي الصفيحي، يتطلب من زوجة الإبن، ولو كانت الثانية في الترتيب، بعد زوجة الإبن البكر، عليها تحمل كل مشاق البيت، من جلب للماء من السقاية، والكنس والغسل والطبخ والعجن…ولأنها عاشرت أسرا بورجوازية جدا، بحكم عملها، وهي صغيرة كخادمة، برغبة من والدها، صارت تتعامل كأميرة،وكان الجيلالي يحبها كثيرا، ولا يريد رؤيتها حزينة، لن أنسى كيف كانت جميلة ليلة عرسها، وهي في الفستان الأبيض، عروس جميلة جدا وعريس ببذلة في ” البيج” باسما بوجه مبتهج يشبه حقل قمح تحت شمس المصيف، ولن أنسى منظر خديهما الموردين، “صبوحي” العرس، رأيتها بنفس الوهج وورد الخدود، منتشية معيناها تبرقان وسط الحضور، الذي جاء يبارك، هل كانت فرحة، لأنها “حمرت” وجه أبيها ب”السروال” أم لأنها ذاقت لأول مرة لذة الحب في سرير واحد مع محبوبها ؟
على كل حال، هي الآن، لايمكنها الجواب، فقد اختارت السفر لعوالم الغياب رغم حضورها الجسدي، المستمر قسرا، ضد عنف الحياة وجبروتها، أما الجيلالي، فبعد طلاقهما، في أقل من سنة، حاول استرجاعها، فلم ترجع، وحاول استرضاءها بكل مايملك، فلم ترض، وكانت، تقول له : “سير افرقني عليك يا بو الريوك”، تزوج الجيلالي من امرأة أخرى، أنجب منها أطفالا، ولم نعد نراه، كانت خالتي تقول، عندما أسألها عنه : ” ذنوبي على السحارات ديال اللوايسات”